الأحد، 23 مارس 2014

المزارات في الإسلام -3 / المزار.. في رؤية علم الاجتماع

 

المزار.. في رؤية علم الاجتماع


من المواضيع المهمّة التي تترك آثارَها في البيئة الاجتماعية وتلفت إليها أنظار علماء الاجتماع.. موضوع الزيارة والمزار.
والاستقراء العام للمزارات في أنحاء العالم يدلّ على أنّ كلاًّ منها مظهر لمعتقد موروث، أو لاعتقاد شعبي خاصّ.
ومن حيث سعة النطاق يمكن تقسيم المزارات إلى: مزار عالَمي ذي سمة عامة شاملة، ومزار إقليمي يرتبط بالبيئة الاجتماعية لمنطقة معيّنة، ومزار خاصّ ضيّق النطاق.
ولا ريب أن ثَمّة مزارات ذات أهمية كبيرة لدى المسلمين ولدى غير المسلمين من مختلف الأديان، كالمسجد الحرام في مكة المكرّمة والمسجد النبويّ في المدينة المنوّرة والمسجد الأقصى في القدس، ومثل كنائس الفاتيكان ومعابد الهند والصين، وسواها من الأماكن التي تُقصَد لتحقيق غرض ديني لدى مختلف الشعوب.
ومن جهة أخرى.. يمكن ـ عند دراسة' المواضع التي توجد فيها المزارات ـ التوصّل إلى نتائج لافتة للنظر. مثال على هذا أن التتبّع لمواقع المزارات المنسوبة إلى أبناء أئمّة أهل البيت عليهم السّلام ـ في إيران وافغانستان وآسيا الوسطى ـ يكشف أن أغلب هذه المزارات قد اتّخذت مكانها في المرتفعات الوعرة أو الأماكن القصيّة المنفردة.. بعيداً عن المدن والأرياف المأهولة وعن مراكز التجمّع السكّاني. وهذا إنّما يدلّ على درجة الضغوط السياسية والإرهاب السلطويّ الذي مارسته السلطات الأمويّة والعباسيّة وسواهما ضد أشياع أهل البيت عليهم السّلام وضد أبنائهم وذراريهم الأمويّة والعباسيّة وسواهما ضد أشياع أهل البيت عليهم السّلام وضد أبنائهم وذراريهم في مختلف البيئات. إنّ أجواء الإرهاب والمطاردة والتقتيل التي كانت مهيمنة في تلكم الأحقاب كانت وراء هذا التفرّق وهذا الاغتراب في المناطق الوعرة النائية لأبناء الأئمّة، فكان إذ توفّي أحدُهم ـ أو قُتل ـ دُفن في موضعه الذي سيكون بعدئذ مزاراً من المزارات التي تُقصَد على الرغم من بُعد المسافات.
والملاحظ أن كثيراً من دُفناء هذه المزارات قد انتهوا بالقتل على أيدي السلطات المعاصرة لهم، خاصّةً وأنّ منهم من حمل راية الثورة والعمل العسكري لمناهضة الحكومات الجائرة.. فجاءت مواقع مزاراتهم لتعبّر عن الظروف السياسية والفكرية السائدة آنذاك.
ومن زاوية أخرى.. تتمتّع المزارات بشأن اقتصادي خاصّ في منطقتها وفي المناطق المجاورة لها، وهي موقع ـ إلى جوار قيمته المعنوية والروحية ـ يؤمّن دخلاً اقتصادياً لسكانه والمقيمين فيه. وهذا الموقع المتميّز يوفّر ـ في المزارات ذات النطاق العالمي ـ فرصاً صالحة للتجارة العالمية.
وغير هذا وذاك.. تُلاحظ دراسات علم الاجتماع أن للمزارات دوراً فاعلاً وعميقاً في إحداث ( التوافق الجَماعي ) في داخل المجتمعات. والتعمّق في دراسة هذه المسألة يدلّ على أن المدن والقرى التي تحتضن المزارات يتمتّع التجمّع السكّاني فيها بالكثير من الاعتقادات والعدات والتقاليد المشتركة التي هي من عوامل القوّة المؤثّرة في ايجاد التوافق الجماعي. إنّ هذه البقاع توفّر إحساساً مشتركاً بالحسّ الجماعي ( نحن ).. الذي يُعدّ ـ في رؤية علم الاجتماع ـ ركناً اساسياً من أركان تعريف الجماعة. من هنا تكون هذه البقاع المقدسة الضاربة الجذور في المعتقد العام للناس.. محرِّكة ـ في الظروف العصيبة كالحرب ـ للدفاع عنها، والتضحية بالنفوس من أجل المحافظة عليها.
ومن المزايا البارزة المتميّزة في المزارات: ظاهرة الفعل الروحي والأثر المعنويّ الكبير الذي تطبعه في نفوس الناس.. ذلك أن الزيارة بدلالتها العامة هي أن يقصد الزائر المكان الخاص ( المزار ) بدافع ذاتي وإرادة شخصية ممتزجة بلونٍ من الإحساس الباطني والاعتقادي، تدفعه إلى هذه الزيارة دوافع متعددة وحاجات متفاوتة، تنبع من اعتقاده الديني الداخلي.
إنّ الزيارة هي شكل خاص من الابتهال إلى الله تعالى يُتّخذ فيه أحد الأنبياء أو الأئمّة أو الصالحين ـ أو أثر من الآثار المقدسة ـ وسيلة لطلب الحاجات ونَيل المسألات. وهذا الطلب للحاجات قد يكون مادياً وقد يكون معنوياً، وعلى مستويات متعددة، وفقاً لنوع معرفة الطالبين ونظرتهم إلى الحياة ومنهجهم الفكري والديني.
وربّما كانت الزيارة مقترنة بمراسم خاصة ومنظّمة من قبل الزائر، ينال بها تقديرلً واحتراماً اجتماعياً من قبل نظرائه في الدين، ومثالها أنّ زائر بيت الله الحرام عادةً ما يدعى في بلدان العالم الإسلامي باسم (الحاج). وفي البيئات الموالية لأهل البيت يطلق على زائر العتبات المقدسة لقب (الزائر) كما في العراق، وفي إيران يُطلق لقب (المشهدي) على من زار عتبة الإمام الرضا عليه السّلام، ولقب (الكربلائي) على زائر الإمام الحسين عليه السّلام في كربلاء.
إنّ زيارة العتبات المقدسة لأئمّة أهل البيت عليهم السّلام حركة عظيمة مُوغِلة في القِدَم، قد اخترقت الأجيال والعصور، وما تزال قويّة مستمرّة تزداد سعتها وقوّتها على توالي السنين. ومحبو أهل البيت الأطهار صلوات الله عليهم يقصدون هذه البقاع المباركة من كافّة أقطار العالَم يحدوهم الشوق والمحبة والمودّة الإيمانيّة للنبيّ صلّى الله عليه وآله وأهل بيته عليهم السّلام.. وكأنّما هم أسماك طليقة، تعبر الأنهار ـ وربّما الشلاّلات المتدفّقة ـ لتبلغ بحرَ العظَمة ومحيط المعرفة المنقذة.. فتحظى بالسكينة والاستقرار والأمان.
حركة الزيارة لهذه المزارات الملكوتية تنبع من دوافع الأشواق الروحية والمشاعر الإيمانية، والحاجة الملحّة، وطلب الاستشفاع. والظاهرة المائزة هنا هي أننا لا نلاحظ لدى قاصدي هذه المزارات إحساساً بالتمايز أو التعالي على الآخرين؛ فكلّ منهم قاصدٌ غايته، ومتّجه إلى الفوز باللقاء.. بقلب مُقبِل، تشدّه آلام المعاناة، وتشتحثه الحاجة.
إنّ منظر الزائرين الذين قَضَوا زيارتهم وخرجوا عائدين.. منظر رائق جدير بالتأمّل والإعجاب: هؤلاء الذين دخلوا إلى الحرم في حالة من القلق والاضطراب والشوق والمعاناة تحت ضغوط الحاجات.. قد خرجوا منه بطمأنينة لا توصف وفي نشاط خاص.. تتلألأ في عيونهم دموع الشوق إلى معاودة الزيارة من جديد.
وممّا لا شك فيه أنّ الطمأنينة التي تسكن قلوب الزائرين فرداً فرداً إنّما تستتبع طمأنينة المجتمع، وتنفخ فيه روح الصفاء والطاقة والأمل. وهذه الحالة من الأمل والسَّكِينة لها ـ فيما يعتقد علماء النفس ـ آثارها الطيبة في حياة الإنسان وحتّى في استمرار حياته، وهذا النشاط الذي ولّدته الزيارة ـ على أيّ نحوٍ كان ـ يطبع بطابعه روح الإنسان وجسده.
إنّ الزيارة المستندة إلى الابتهال والطمأنينة تترك أهمّ نتائجها في حياة الأفراد وفي السلامة النفسية والروحية للإنسان ـ فرداً ومجتمعاً. وهي نتائج كثيرة عميقة تحتاج إلى بحث أكثر تفصيلاً من أجل التعرّف عليها والإحاطة بها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق